الحصاد الفلسفي للقرن العشرين – عطيات أبو السعود

فكر وفلسفة ومنطق ,

نحن هنا أمام مشروع فكري كبير ومهم جدا. هذا المشروع تقوم به مؤسسة عبدالحميد شومان بالأردن ويشرف عليه المفكر الأردني المعروف “فهمي جدعان”. مشروع (حصاد القرن) يهدف إلى التفكير في منجزات القرن العشرين المعرفية والأدبية والفنية والعلمية والتقنية. هو مشروع تنويري كما يصفه المشرف على المشروع فهو “يستجيب لإستراتيجية ثقافية تتوخى وضع العقل العربي والذوق العربي والفعل العربي في فضاء العصر، وتنشد تشكيل جملة من الدواعي والبواعث و القصود الدافعة إلى تقدّم الوعي والفعل في حياة الأجيال العربية”. هذا المشروع برأيي يسعى لتحقيق التوازن بين التواصل المادي والفكري عند الفرد العربي. أعني أن الفرد العربي متواصل مع المنجز المادي للحضارة الغربية، الحضارة التي شكلت القرن العشرين، ولكنه منفصل عن الأسس الفكرية لهذه الحضارة ومنجزها الفكري وهذا ما يتسبب في حالة اللاتوازن التي يعيشها هذا الفرد. هذا المشروع الذي يقدم المنجز الفكري والفني والتقني للقرن العشرين يضع القارئ العربي في أفق مقارب لما يجري في العالم، إنه يدمجه فيه ويساعده على التواصل معه والعيش بقيمة فيه. ينضم هذا الجهد للمجهودات التي تقوم بها بعض الجهات العربية المعنية بالفكر والثقافة مثل المنظمة العربية للترجمة التي تتوالى إصداراتها لترجمة المنجز الفكري البشري ومؤسسة الفكر العربي، وتشير الأخبار إلى قدوم بعض المشاريع لعل من أهمها ذلك الذي في دبي بميزانيته الضخمة والذي يدعمه الشيخ محمد بن راشد المكتوم. هذا المشاريع إن استطاعت الاستمرار وسلمت من الضغوطات والاستبداد فإنها ستثري الساحة الفكرية العربية وستساعد في بث الروح فيها. بدأ هذا يتحقق فالشبان المثقفون العرب يجدون أمامهم الآن الكثير مما يستحق أن يقرأ ويفكر به بكل جدية.

هذا الكتاب يمثل الجزء الأول من أربعة أجزاء مقررة للمشروع الجزء الأول في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية ويحتوي على الحقول التالية: علم الاقتصاد، علم الاجتماع، العلوم التربوية، القانون، علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، الفلسفة والمنطق، التاريخ، العلوم الإنسانية، الإدارة، الإعلام. الجزء الثاني في مجال الأدب والنقد ويشتمل على اللسانيات، النقد الأدبي، الأدب. الجزء الثالث: مجال الفنون ويشتمل على الفنون التشكيلية، الموسيقى، المسرح، العمارة، السينما. الجزء الرابع في مجال العلوم الأساسية والتكنولوجيا : العلوم الفيزيائية، الرياضية، الطبية، الزراعية، المعلوماتية، الاتصالات، الكيميائية، التكنولوجيا. تقدم دراسة تستحضر أبرز منجزات القرن العشرين في الموضوع المحدد.

يحتوي كتابنا هذا الأسبوع على سبعة عشر دراسة تغطي محاور الجزء الأول “العلوم الإنسانية والاجتماعية”. سنهتم هنا بالدراسة العاشرة في هذا الكتاب وهي الدراسة التي أعدتها الدكتورة عطيات أبو السعود بعنوان “الحصاد الفلسفي للقرن العشرين”. ويأتي هذا الاختيار لأن الجانب الفلسفي هو أحد الجوانب الملتبسة والمشوّهة في الثقافة العربية. مع أن الجانب الفلسفي هو جانب أساسي ومركزي ولا يمكن تحقيق أي نهوض في الفكر دون دعامته وتأسيسه. عطيات أبو السعود هي أستاذة مساعدة للفلسفة الحديثة والمعاصرة في كلية الآداب بجامعة حلوان. حاصلة على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة. لها العديد من الكتب والدراسات منها: “المدينة الفاضلة عبر التاريخ (ترجمة)،” الأمل و اليوتوبيا في الفلسفة (إرنست بلوخ)”، “كانط والسلام العالمي”،”نيتشه وما بعد الحداثة”.

الحديث عن المنجز الفلسفي في القرن العشرين ليس أمرا هينا كونه أولا تأريخ للفلسفة وهذا بحد ذاته عمل عسير ويحتاج للكثير من المقدمات لإنجازه. نجد هذا في مقدمة برتراند رسل لكتابه المهم “حكمة الغرب” كما نجده لدى بوشنسكي في مقدمة كتابه “الفلسفة المعاصرة في أوروبا”. التأريخ للفلسفة يتطلب موقفا فلسفيا ابتداء، تحديدا لما هو فلسفي، وفهما للعلاقة بين الأفكار والمذاهب وغيرها. لا تبدأ المؤلفة من تحديد موقفها من كل هذا بل تنطلق من مناقشتها لمقولة نهاية الفلسفة، المقولة التي تأتي ضمن مقولات النهايات، نهاية الأيديولوجيا ونهاية التاريخ، ونهاية التربية ونهاية الفلسفة. ترى المؤلفة بنباهة واحترام للمنطق العلمي أن الإجابة على سؤال : هل انتهت الفلسفة؟ يجب أن يتم من خلال دراسة المنجز الفلسفي في القرن العشرين. فإن كان موجودا ومستمرا وفاعلا فالفلسفة لم تنته والعكس صحيح. أيضا هذه الدراسة ستساعدنا على الإجابة عن دور الفلسفة وسط التقدم العلمي الهائل والتحولات والهائلة في العالم وثورة المعلومات والاتصالات.

صعوبة التأريخ للفلسفة في القرن العشرين

إن كان التأريخ للفلسفة أمر عسير فإن هذه العسارة تزداد في التأريخ للقرن العشرين لعدة أسباب منها التنوع الهائل للتيارات الفلسفية في القرن العشرين الأمر الذي جاء نتيجة الخروج على الأنساق الفلسفية الكبرى التي كانت سائدة في الفلسفة الأوروبية من مثالية وتجريبية. ومن أسباب عسارة هذا التأريخ أن الكثير من التيارات الفلسفية في القرن العشرين يصعب ردها إلى أصول في القرن التاسع عشر مما يجعل من تصنيفها أمرا ليس بالهين. أيضا عودة التشابك بين العلوم والفلسفة والتحولات السريعة داخل هذا القرن يجعل من التأريخ لها أمرا مشوشا. عمر الفلسفات أصبح أقصر بكثير قد لا يتجاوز عمر أصحابها. الانتقال من أول القرن إلى نهايته شبيه بالانتقال من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة. القرن العشرين قرن حقيقي كما يرى هيجل كونه حافل بالكثير من الأحداث الكبيرة والحروب الهائلة، هو قرن التحولات الكبرى ومن الطبيعي أن ينسحب هذا على التفكير الفلسفي فيه. ولعلنا نزيد في أسباب صعوبة التأريخ للفلسفة في القرن العشرين أن عدد لا يستهان به من أهم فلاسفة هذا القرن كانوا يرفضون وصف “فيلسوف”، فوكو، دريدا من أبرز هؤلاء. وهذا ما يجعل المؤرخ يعيد التفكير مجددا في تصنيفاته ومعاييره. فإن لم يكن فوكو ودريدا فلاسفة فمن هم الفلاسفة إذن.

خصائص التفكير الفلسفي في القرن العشرين

لا تقل هذه المهمة صعوبة عن سابقتها فإذا كان التأريخ لفلسفة القرن العشرين صعبا فإن تحديد خصائص للتفكير الفلسفي أشد صعوبة. لا تحدد المؤلفة منهجا لهذا التحديد ولكن ربما نستطيع استنتاجه. أول هذه الخصائص الاتصال بين النصف الأول من القرن العشرين والقرن التاسع عشر. ثانيا اختفاء الأنساق والمذاهب الكبرى وهذا جلي جدا. ثالثا التمرد على النزعة المثالية هي السمة المميزة للعقل الفلسفي في القرن العشرين. رابعا تحول الهجوم على الميتافيزيقا العقلية على الهجوم على الفروض المنهجية للنزعة العقلية. خامسا أن التفكير الفلسفي أصبح تفكيرا واقعيا لا مثاليا. سادسا أن الفلسفات أصبحت أكثر ارتباطا بالعلم، بالتأكيد لا ينطبق هذا الحكم على الوجودية. سابعا طغيان الأسلوب النقدي على مجمل الفلسفات أكثر من أي عصر سابق. ثامنا :في النصف الثاني من القرن أصبح يوصف بعصر الكلمات والرموز نتيجة لسيادة فلسفات اللغة والتحليل. تاسعا : ظهور فلسفات ما بعد الحداثة. وعاشرا وأخيرا التفكير الجاد في جدوى الفلسفة ودورها خصوصا في نهاية القرن.

أهم فلسفات القرن العشرين

كل تصنيف يشتمل على تعسف كونه يدخل ويخرج. لكن التصنيف أيضا ضرورة علمية من أجل تكوين نظرة شمولية وعامة. تختار د. عطيات أبو السعود أهم الفلسفات المؤثرة وأبرز روادها. خرجت في الأخير بإحدى عشر فلسفة هي كالتالي : فلسفة الحياة (برجسون)، البراجماتية (بيرس، جيمس، ديوي)، التحليلية (جورج مور، رسل، فيتجنشتين)، الوضعية المنطقية (كارناب)، الفينومينولوجيا (هوسرل)، الوجودية (مارسيل، ياسبرز، هيدجر، سارتر)، النظرية النقدية (هابرماس)، البنيوية (بارت، فوكو، شتراوس)، ما بعد الحداثة، فلسفة التأويل (جادامير، ريكور)، التفكيكية (دريدا). يمكن أن أعترض هنا على إفراد ما بعد الحداثة كفلسفة مستقلة وهي برأيي مرحلة تحتوي التفكيكية والبنيوية بشكل أساسي. طبعا تقدم المؤلفة موجز سريع ومركز لأبرز مقولات هذه الفلسفات وأبرز رموزها. وهذا يمثل مدخلا هاما للقارئ غير المتخصص كما يمثل صورة بانورامية للقارئ المتخصص.

العرب فلسفيا، في القرن العشرين

تحت عنوان الإسهام الفلسفي العربي بين التجديد والترديد تختم أبو السعود دراستها بالحديث عن الحالة العربية. كيف يمكن قراءة المنجز الفلسفي فيها في القرن العشرين. من المعلوم أن الحديث عن فلسفة عربية ومنجزاتها أمر مبالغ فيه تماما كما تذكر المؤلفة، فليس هناك مدارس فلسفية ولا مذاهب فلسفية. كل ما هنالك هو تفاعل مع الفلسفة الغربية، على تفاوت هذا التفاعل. يأتي التأثير مبكرا لفلسفة برجسون في الساحة العربية. ولكن رغم ترجمة أغلب مؤلفاته فإن تأثير هذه الفلسفة لم يؤد إلى تشكيل تيار فلسفي أو محاولات فلسفية قادرة باستثناء جوّانية عثمان أمين. كان التأثير الأكبر لفلسفة الحياة على الأدباء خصوصا في نظرتهم الحيوية للإنسان واستعادة الاهتمام بالشعور الحي المتدفق والحرية والطاقة الروحية.

الفلسفة الوجودية كانت في الخمسينات والستينات هي الفلسفة الأكثر انتشارا وأثرا في الساحة العربية خصوصا، فلسفة سارتر التي ترجم أغلبها خصوصا الجانب الأدبي منها. هنا يبرز عبدالرحمن كأحد الفلاسفة الوجوديين عربيا رغم أنه لم يواصل العمل على مشروعه الخاص الذي بدأه بكتابه (الزمن الوجودي). تأتي فلسفة الوضعية المنطقية لاحقا لتطالب بضبط التفكير والدقة في اختيار الألفاظ، يبرز هنا اسم زكي نجيب محمود كأحد الذين قدموا هذه الفلسفة للقارئ العربي سواء عن طريق ترجمة أمهات الكتب فيها أو عن طريق التأليف الخاص ومناقشة القضايا العربية بمناهج هذه الفلسفة. وبرأيي أن محمود نجح كثيرا في التفكير في الحالة العربية بأدوات فكرية جديدة كما أن هدوءه وحكمته جعلته يطرح أفكارا جذرية بأسلوب متقن وبعيد عن الدعاية. تنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى تأثير البنيوية في الساحة العربية خصوصا عن طريق ميشيل فوكو المنتشر كثيرا. أدبيا تأثر بالبنيوية جابر عصفور، وحكمة الخطيب،وكمال أبو ديب. فكريا كان تأثير فوكو والبنيوية واضحا في تفكير العديد من مفكري المغرب العربي من أمثال الجابري و أركون و التريكي. أما عن تأثير الفلسفة التفكيكية والتأويلية (الهرمونيطيقية) فترى المؤلفة أن العقل العربي عجز عن التواصل معها إما بسبب ضعف المنهج النقدي لديه وهذه فلسفات تقوم على النقد، أو بسبب أن العقلية العربية لا تزال عقلية نصوصية مرتبطة بشدة بالنص الديني ولا تستطيع الفكاك منه. وما ردة الفعل على أفكار نصر حامد أبو زيد إلا شاهد على هذه الحالة.

إذن تبقى الحالة الفلسفية العربية محصورة في التفاعل مع الفلسفة الغربية وهذا برأيي طبيعي ولكن الإشكال هو العجز عن تكوين مدارس فلسفية أو تيارات يتتابع فيها أجيال يساهمون في تكوين تراكم معرفي يخلق أجواء علمية وصحية تساعد على استمرار التجارب وتجددها. ما يحدث أن أفرادا يبرزون وتنتهي القصة معهم. تختنق هذه التجارب في الأجواء المحيطة المعادية للتفكير، تنتهي بسرعة. يمكن أن نقول أن الفلسفة العربية جاءت بمقدار الحرية الموجودة، بمقدار المساحة الممكنة للتنفس وإن كان مطلوبا منها ذاتها توسيع هذه المساحة.