الحرب والسلم – ليو تولستوى (3 مجلدات)

الأدب واللغة ,

وكان نيكولا الصغير، وله من العمر الآن خمسة عشر عاماً، وهو فتى ذكي، ناحل، ممروض كستنائي الشعر المجعد، كثير جمال العينين، مغتبطاً لأن العم بيير، كما كان يناديه، هو عنده موضوع إعجاب وحب جموحين. ولم يجرب أي إنسان أن يوحي إليه بحب مخصوص لبيير الذي ما كان يراه إلا في النادر من الأحايين. وكانت الكونتيس ماري، التي أخذت أمر تربيته على عاتقها، قد جهدت بكل ما أوتيت من قوى كما تحمل نيكولا الصغير على حب زوجها بقدر ما كانت تحبه هي نفسها، وكان الصغير يحب عمه في الحقيقة، لكن بشيء غير محسوس من الازدراء، بينما هو يعبد بيير عبادة حقيقة. وما كانت به رغبة في الصيرورة فارساً، أو الحصول على صليب القديس جورج مثل عمه نيكولا. كان يريد أن يكون عالماً، ذكياً، طيباً مثل بيير، وكان محياه يتألق سعاة على الدوام في حضرة بيير، لكنه يحمر خجلاً ويضيق نفسه عندما يخاطبه عمه، وما كان ينطق كلمة واحدة تسقط من شفتي بيير، ومن ثم يتذكر ذلك وحده أو مع ديسال، ويحاول أن يخمن معنى كل ما سمعت أذناه، وكانت حياة بيير الماضية، وأحزانه حتى عام 1812 (كان قد شكل عنها صورة غامضة شعرية بناء على الأحاديث التي سمعها) ومغامراته في موسكو، ووقوعه في الأسر وأفلاطون كاراتاييف (الذي حدثه بيير عنه) وحبه لناتاشا (التي كان الصبي يحبها أيضا بعاطفة خاصة)، وبصورة خاصة صداقته لأبيه الذي ما كان يستطيع أن يتذكره، هذا كله كان يجعل من بيير، في عينيه، بطلاً وقديساً”. رائعة تولستوي تحدث عن نفسها في هذا المقطع الذي اختزل فيه الروائي المبدع شطراً كبيراً من أحداث الحرب والسلم، تجاوز تولستوي جدار الوصفيات ليتغلغل في عمق شخصياته المرسومة بدقة، يستشف المشاعر والدوافع، معرباً مكامن الحب الكراهية، القوة والضعف في النفس.الإنسانية. يُدخل تولستوي القارئ في عالمه الذي نسجه من خيوط الواقع التاريخي حيناً، الحياتي أحياناً الخيالي أطواراً، يقف معه على عتبات القصور ليشهد الحفلات التي تعكس نمط حياة طبقة الأمراء والنبلاء الفرنسيين والروس، واقفاً على نمطية تفكيرهم مسترسلاً في الأجواء التاريخية التي استدعى تولوستوي من خلالها أحداث الحرب الذي برع في وصف ساحاتها وجنودها وقوادها وعتادها وعدّتها حتى يخيل للقارئ سماعه قرع السيوف وصهيل الخيول وصوت أزيز العربات. يعيش معه حتى صخب النصر ومرارة الانكسار ويفرق أكثر في مشاعر الإنسان المنقاد إلى مصير مجهول في حرب فرضت عليه، بريشة فنان يرسم ويلون لوحات الحرب السلام، وبمعاني وخيال الروائي يسترسل في سرد حكاية يمتزج فيها الواقع بالخيال، وبمهارة المؤرخ يؤرخ لأحداث ولمعارك دارت رحاها في فترة من فترات التاريخ وبدقة المحلل النفسي الاجتماعي يشخص حالات ومكامن الضعف والقوة في شخصياته، وإبداع الإنسان يجسد الإنسان في حربه وفي سلمه.